مواجهه ساخنه بين مصر واسرائيل حول الجولان السورية
طارق حسن
لكل حالة مرضية مجموعة من الأعراض الجانبية ربما يشكل أحدها خطرا أكبر مما يحمله المرض نفسه، والحالة السورية الممتدة منذ العام ٢٠١١ بها العديد من الأمراض القاتلة، وآلاف من الأعراض الجانبية.
أشهر هذه الأعراض كارثية هو التصاعد المصاحب لكل فترة ترنح للأزمة لما يمكن تسميته بـ «حديث التقسيم / خيار الفيدرالية»، كحل للخروج من تصلب شرايين الوضع على الأرض. هذا عن الأشهر لكن الأخطر والأكثر قابلية للتحقق هو الرغبة الإسرائيلية المحمومة في ابتلاع الجولان السورية المحتلة إلى الأبد، استثمارا لوضع سوريا الداخلى المشتعل والمنهك، والذي تقدره إسرائيل بأنه فرصة ثمينة ربما لن تتكرر، يمكن خلالها فرض أوضاع نهائية على تلك الأرض المهمة والإستراتيجية بامتياز، من الناحية الأمنية والعسكرية، ومن ناحية البعد المائى لتلك المنطقة المتاخمة لبحيرة طبرية. جدير بالذكر أن الجولان مضى على احتلالها ما يقارب الخمسين عاما، لم يرصد فيها طوال تلك الفترة مظاهر أو خطوات تشير إلى نية إسرائيل للتخلى عنها.
وكان من اللافت مؤخرا قيام الحكومة الإسرائيلية بعقد جلستها الأسبوعية لأول مرة في الجولان المحتلة في ١٧ إبريل الجارى، في حدث غير مسبوق أراد نتنياهو من خلاله القول بأن الانسحاب من الهضبة السورية المحتلة ليس واردا على الإطلاق، وتعهد نتنياهو في بداية الاجتماع أن يبقى الجولان السورية المحتلة جزءا من إسرائيل «إلى الأبد»، ويمكن فهم تلك الخطوة بأن نتنياهو بهذه الخطوة قرر إيصال رسالة إلى المجتمع الدولى، مفادها أن انسحاب إسرائيل من الجولان ليس مطروحا على الأجندة الإسرائيلية، لا في الحاضر ولا المستقبل، وقد قام نتنياهو بالتمهيد لذلك بالفعل حيث سبق أن أوصل هذه الرسالة إلى وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى أثناء اجتماعه به مؤخرا، كما قام بتكرار الرسالة على مسامع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين في موسكو في الشهر نفسه.
ما تم تداوله بالداخل الإسرائيلى تعليقا على تلك الخطوة المفاجئة، إن نتنياهو يخشى أن تتعرض الدولة الإسرائيلية لضغوط من المجتمع الدولى لحملها على الانسحاب من الهضبة المحتلة، وسط ترتيب إقليمى جديد إذا ما تم التوصل إلى اتفاق بشأن مستقبل سوريا، فخلال جولات مفاوضات السلام التي تجرى في جنيف هناك العديد من الأحاديث التي بدأت تتواتر همسا، أن الحدود الحالية للدولة السورية ربما يشملها بعضا من التغيير على خلفية تصلب أطراف التفاوض، فالطرق المسدودة بين النظام السورى ووفد المعارضة على خلفية احتقان مذهبى وعرقى ساخن، بدأ يصل في رأى البعض إلى استحالة عودة العيش المشترك بين الأطراف المتنازعة، وأحيانا تخرج تلك الأحاديث كنوع من مواجهة انسداد الطرق نحو صياغة مرحلة انتقالية مقبولة من الطرفين. هذه التفصيلات تصل بالطبع إلى إسرائيل في ذات يوم طرحها، وتتابع أيضا كل همسات الغرف المغلقة ويمكنها ببراعة استنتاج المسارات المتوقعة.
نتنياهو أقر مؤخرا بشكل علنى خلال زيارة تفقدية للقوات الإسرائيلية في الشطر المحتل من الجولان، أن إسرائيل قصفت عشرات المرات قوافل سلاح في سوريا كانت مرسلة لحزب الله في لبنان منذ العام ٢٠١١ وحتى الآن، سواء كانت تلك القوافل قادمة من الجيش السورى مباشرة أو تشكل دعما إيرانيا اختار أن يمر عبر هذا الطريق، وهذا العمل العسكري والأمنى من وجهة النظر الإسرائيلية هو النموذج الأوضح المعبر عن أهمية هضبة الجولان الإستراتيجية بالنسبة لإسرائيل، فإسرائيل تقدر التواجد على هذه المنطقة المرتفعة أنها توفر لها عينا كاشفة لما يمكن أن يحدث حولها في جوار مضطرب دوما،
لذلك احتلت إسرائيل ثلثى هضبة الجولان خلال حرب ١٩٦٧، ثم أعلنت ضم هذا الشطر عام ١٩٨١ في خطوة لم يعترف بها المجتمع الدولى، عندما قرر الكنيست الإسرائيلى في ١٤ ديسمبر ١٩٨١ فيما يسمى بـ «قانون الجولان»: فرض القانون والقضاء والإدارة الإسرائيلية على هضبة الجولان، وخلال النقاش حول نص القرار قال رئيس الوزراء الإسرائيلى آنذاك مناحم بيجن إن القرار لا يغلق الباب أمام مفاوضات إسرائيلية سورية، واعتبارا من هذا التاريخ بدأت إسرائيل تتعامل مع المنطقة كأنها جزء من محافظة الشمال الإسرائيلية، رغم عدم اعتراف المجتمع الدولى بالقرار ورفضه مجلس الأمن في القرار رقم ٤٩٧، حيث تشير وثائق الأمم المتحدة إلى منطقة الجولان باسم «الجولان السورية المحتلة».
تطالب سوريا بالطبع منذ عهد الأسد الأب بإعادة الهضبة الممتدة من جبل الشيخ شمالا وحتى نهر اليرموك جنوبا، استنادا إلى أن الأمم المتحدة لا تزال تشير إلى هضبة الجولان باعتبارها «أرضا سورية محتلة»، أما إسرائيل فتطالب رسميا بالاعتراف بضم الجولان إلى أراضيها كلما لمحت حالة انحسار للدولة السورية، حيث يجب النظر إلى أن إسرائيل أعادت لسوريا عام ١٩٧٤ مساحة ٦٢٠ كم٢ من الجولان التي تبلغ مساحتها الكلية ١٨٦٠ كم٢، الجزء المستعاد إلى السيادة السورية ضم مدينة «القنيطرة» وجوارها وقرية «الرفيد» في إطار اتفاقية فك الاشتباك، وأعلنت إسرائيل في بعض المناسبات استعدادها للانسحاب من أجزاء أخرى بالجولان في إطار اتفاقية سلمية مع ترتيبات أمنية خاصة، تمثلت أكثرها جدية عندما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى إسحاق رابين عام ١٩٩٣ أن «عمق الانسحاب من الجولان سيعادل عمق السلام»،
وألمح عام ١٩٩٤ في اجتماع مجلس الوزراء حينئذ إلى أن الانسحاب من الجولان سيتم في إطار اتفاقية سلمية تشبه معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر، لكن المفاوضات الإسرائيلية السورية في ذلك الحين وصلت إلى طريق مسدود، ثم بادر بعدها إيهود باراك إلى استئناف المفاوضات برعاية أمريكية واقترح على وزير الخارجية السورى فاروق الشرع في مباحثات العام ٢٠٠٠، الانسحاب إلى الحدود الدولية المعتمدة في ١٩٢٣ مقابل ترتيبات أمنية خاصة وتطبيع العلاقات الإسرائيلية السورية، لتتعثر هذه المحاولة وتتوقف تلك المباحثات مرة أخرى دون أن يفصح أي من الجانبين السبب أو العقدة رسميا، لكن بحسب تسريبات كواليس الصحافة الإسرائيلية وقتها رفضت سوريا اقتراح إيهود باراك لأنها تطالب بالانسحاب الإسرائيلى من أراض غربى حدود ١٩٢٣ سيطر الجيش السورى عليها قبل يونيو ١٩٦٧، وهى مطالب اعتبرتها إسرائيل غير شرعية ووصفتها بالطمع السورى، لتسجل بعدها آخر محاولة تقارب لحلول تفاوضية في إبريل ٢٠٠٨ عندما أعلنت وكالة الأنباء السورية، أن رئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود أولمرت أبلغ الرئيس السورى بشار الأسد عبر رئيس الوزراء التركى، أنه مستعد لانسحاب إسرائيلى من هضبة الجولان مقابل السلام الكامل مع سوريا شاملا الجبهة اللبنانية لضمان عدم التهديد من قبل حزب الله على الشمال الإسرائيلى، لكن الرئيس السورى بشار وقتها كان في أوج بناء تحالفه الإستراتيجي مع إيران، والذي كان ينظر لحزب الله اللبنانى بكونه يمثل الضلع الثالث لهذا المحور الذي يستهدف ضمان الاستحواذ على لبنان في تلك المعادلة الجديدة. لذلك لم تكن هناك حماسة سورية رسمية للدخول في أي تقارب إسرائيلى قد يخلط له أوراق التحالف المشار إليه، والذي كان يروج لنفسه باعتباره محورا للممانعة في مقابل الدول العربية التي كان بشار الأسد يتخذ الخطوات واحدة تلو الأخرى في النأى عنها، حتى وصل إلى ما يشبه القطيعة مع الكافة لأسباب متنوعة بعضها شخصى والآخر استنادا لتضارب المصالح بإيعاز كامل من إيران.
بالعودة إلى التحرك الإسرائيلى الأخير والأحدث فيما يخص هضبة الجولان نظرت مصر (رغم جمود العلاقة الرسمية) مع النظام السورى، لهذا التحرك بأنه خطوة مهددة حقيقية بالنظر إلى تزايد الأهمية الإستراتيجية لهضبة الجولان بالنسبة لنظريات الأمن الإسرائيلى، وتلك الأخيرة هي الخطوط المقدسة لأى سلطة حاكمة في تل أبيب بل وتشهد العديد من المزايدات الداخلية الإسرائيلية، ووفق الرؤية المصرية لا يوجد في الأفق المنظور أي قدرة عسكرية أو إرادة سياسية لدى النظام السورى المنهك لاستعادة الجولان، فلم يكن أمام المسئولية القومية المصرية سوى مضمار الدبلوماسية الدولية لمحاولة قطع الطريق على هذا السطو الإسرائيلى الفاضح، كثفت مصر خلال الأيام الماضية جهدها في هذا الإطار وقامت باستثمار مقعدها بمجلس الأمن لطرح مشروع إدانة للتحرك الإسرائيلى واستصدار قرار دولى بعدم الاعتراف بهذا الضم المفاجئ.
وبعد ماراثون دبلوماسى مصرى ناجح استطاعت أن تدفع مجلس الأمن إلى أن يعلن بأن بيان رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو عن «سيادة إسرائيل» على هضبة الجولان «باطل»، وأعرب المجلس عن قلقه مما وصفه بـ «النشاط الاستيطانى الإسرائيلى الأخير المتعلق بمرتفعات الجولان السورية المحتلة»، وذلك في بيان للمجلس نشر على موقعه الرسمى الأربعاء الماضى، تبعه تصريح رسمى لرئيس مجلس الأمن «ليو جيى»: «أشار الأعضاء أيضا إلى القرار رقم ٤٩٧ وأشاروا إلى أن قرار إسرائيل بفرض قوانينها وولايتها وإدارتها في الجولان السورية المحتلة، باطل وليس له أثر قانونى دولى، ودعا أعضاء المجلس الأطراف إلى الامتثال لبنود اتفاق عام ١٩٧٤ لفك الاشتباك بين القوات، وشدد الأعضاء على الحاجة لإجراء المفاوضات لتحقيق السلام العادل والشامل والدائم في الشرق الأوسط»، ربما تلك الخطوة هي الضربة الإجهاضية المصرية الناجحة الممكنة الآن في مواجهة إسرائيل، لكن تلك الأخيرة لن تعدم أساليب الالتفاف على القرارات الدولية فهذا منهجها منذ تأسيسها احتلالا للأرض الفلسطينية، وهذا ما يجب الالتفات والعمل عليه خاصة أن نتنياهو ذكر عبارة الخط الأحمر للرئيس الروسى بوتين متحدثا عن الجولان وهضاب جبل الشيخ، وفق أي ترتيبات مستقبلية لحدود سورية باتت غائمة بأكثر من أي وقت مضى وصارت أمام الأطراف اليوم قابلية للمساومة صعودا وهبوطا، على وقع طلقات الموت المجنون والإنهاك الذي أصاب الجميع، ما قد يدفعهم لتسديد أثمان باهظة فقط من أجل الإفلات من تلك الطاحونة التي تبدو عصية على كلمة النهاية.
---------------------
.