كتب .. شريف القصاص .
مع تضييق الخناق على العناصر الإرهابية في مدينة درنة الليبية، تمكن الجيش الليبى من اصطياد صيد إرهابى ثمين، وقطع الاتصالات عن قيادات إرهابية بارزة تدير العمليات من بينهم المصري الهارب هشام العشماوي.
وقال ضابط في الاستخبارات العسكرية في تصريحات نقلتها صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية: «تمكنا من تدمير جهاز رئيسي ومتقدم تقنيًا للاتصالات والمراقبة والتجسس كان يخص متطرفين في درنة».
وأضاف أن من بين القادة الذين انقطعت اتصالاتهم بباقي المجاميع المسلحة في درنة، الإرهابي المصري هشام العشماوي، وهو مرتبط بجماعات متشددة في سيناء ومدن مصرية أخرى، يعرف بلقب «المهاجر»، وجزائري يلقب بـ«الأفغاني».
وقال: إن هذا الأخير «يعد الذراع اليمنى للجزائري مختار بلمختار»، أحد أكبر زعماء المتشددين في غرب أفريقيا.
وذكر المصدر أسماء قياديين مصريين قال إنهم استوطنوا درنة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وترأسوا مجموعات مسلحة، ويعرفون بألقاب «خُضير» و«سعيد» و«العسال» و«عبد الحق» و«أبو فاطمة»، وقال إن معظمهم من تنظيم «أنصار بيت المقدس» الذي بايع «داعش» وغيّر اسمه إلى «ولاية سيناء».
وأضاف أن من بين القادة المختفين أيضًا شخصيات عربية جنسياتها غير معروفة، وذكر ألقاب عدد من هؤلاء من بينهم «أبو قتادة» و«الهواش»، إضافة إلى قيادي «مهم ومخضرم» يعرف في أوساط متشددي درنة بـ«جمال الدين».
ويعتقد أن «المهاجر» -كنية العشماوي أبو عمر المهارج- أصيب في قصف سابق قام به الجيش على مواقع المتطرفين في درنة، ثم اختفى في المدينة، قبل إطباق الجيش الحصار عليها أخيرًا، مثل قادة آخرين مصريين وتونسيين، ويعتقد أن معظم هؤلاء انتقلوا إلى مناطق صحراوية في الجنوب والغرب، ومنهم «خضير» الذي أوقف مع مجموعة مقاتلين قرب طرابلس.
اعتقال خضير
وحصلت السلطات الليبية على معلومات وفيرة من «خضير» تتعلق بتحركات عدد من قادة المتطرفين في درنة، لكن يبدو أن غياب التعاون بين السلطات الأمنية في غرب البلاد وشرقها يعيق الاستفادة القصوى من هذه المعلومات، ويوجد مسئولون حكوميون في طرابلس كانوا ينتمون فيما مضى إلى جماعات مصنفة لدى دول عدة بأنها «إرهابية»، ويعتقد أن بعضهم يقف وراء حملة ضد دخول الجيش درنة.
وينفذ الجيش عملية معقدة لطرد المتطرفين من المدينة، بسبب اختلاط المقاتلين المحليين بآخرين أجانب مدربين جيدًا ولديهم خبرات سابقة من معارك مماثلة في سيناء والعراق وسوريا والجزائر ومالي.
وعثر الجيش على مخابئ لأسلحة متوسطة وثقيلة ومراكز اتصالات وأنفاق تحت الأرض، ويتقاسم معظم المقاتلين المحليين الرافضين لدخول الجيش ضواحي المدينة ومداخلها الرئيسية، مع تمركزات لمقاتلين أجانب ينتمون إلى تنظيمات متطرفة مختلفة لها امتداد داخل ليبيا وفي دول الجوار.
ويفترض أن «خُضير» ما زال محتجزًا لدى السلطات القضائية الليبية، بالنظر إلى وجود ضغوط من دول إقليمية متهمة برعاية الإرهاب، للإفراج عن متطرفين محتجزين في غرب ليبيا بينهم «خضير» نفسه، ويقول مصدر في النيابة الليبية إن تحركات «خضير»، وفقا لما اعترف به لسلطات التحقيق، تبين إلى أي مدى يملك قادة المتطرفين في المنطقة، حرية الحركة عبر الحدود من خلال مطارات وموانئ بحرية.
طائرة شحن عسكرية
وبحسب نصوص التحقيقات التي أمكن الاطلاع عليها، فقد ظل «خضير» على اتصال مع «المهاجر» في درنة حتى أسابيع قليلة مضت، وتنقل بين دول بالمنطقة مع مجموعة تتكون من نحو عشرين من «أنصار بيت المقدس» الفارين من سيناء، وكانت إحدى تلك الرحلات عبر طائرة شحن عسكرية، كما استخدم مرافئ بحرية من ساحل طرابلس إلى درنة مرات عدة.
وأقر «خضير» في التحقيقات بأنه تلقى ومجموعته تدريبات في معسكر يقع جنوب عاصمة لدولة مجاورة لليبيا من الجنوب لمدة تسعين يومًا، ثم انتقل إلى دولة خليجية متهمة برعاية الإرهاب –قطر-، وأقام فيها مع مجموعته (نحو 20 عنصرًا) لمدة أسبوع، ثم نقلوا جميعًا بالطائرة إلى دولة ثالثة مجاورة لليبيا أيضًا، ودخلوا ليبيا متسللين من الحدود البرية.
واستقر «خضير» ومن معه من مسلحين في بلدة صبراتة في غرب طرابلس، حيث وجد هناك مجموعات أخرى من «أنصار بيت المقدس» تقوم بتدريبات عسكرية وسط مزارع الزيتون، وفي تلك الأيام اجتاحت البلدة قوات من الجيش الليبي التابع لرئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فائز السراج، وتم طرد المتطرفين من صبراتة، وفر «خضير» ومجموعته وعشرات آخرين من «أنصار بيت المقدس» إلى منطقة الخُمس الساحلية الواقعة إلى الشرق قليلًا من طرابلس.
منطقة الخمس
ويقول «خضير» في التحقيقات إن بقاءه في الخُمس لم يدم طويلًا، إذ انتقلت مجموعات «أنصار بيت المقدس» من المنطقة، عبر البحر، إلى درنة التي تبعد عن الحدود المصرية نحو 250 كيلومترًا، وفي درنة اجتمع مع «المهاجر»، وجرى تهيئة المجموعة كي تتسلل عبر الحدود المصرية لتنفيذ عمليات داخل مصر، إلا أن انتشار قوات من الجيش المصري على طول الحدود مع ليبيا وطلعات طيران المراقبة، حالت دون دخول «خضير» ومن معه إلى مصر.
وتفيد المعلومات بأن قادة المتشددين في درنة انقسموا إلى فريقين عقب ضربات الطيران التي وجهها الجيش الليبي خلال الشهور الثلاثة الماضية، لخمسة معسكرات على الأقل لتدريب المتطرفين، الفريق الأول اختار البقاء في المدينة والاعتماد على بناء التحصينات وحشد المقاتلين وتهديد السكان المناوئين لوجوده، مع تلقى الدعم المعنوي والإعلامي من بضعة مسئولين في طرابلس، وذلك للتصدي لأي محاولة من الجيش لدخول درنة، والفريق الثاني اختار التسلل من درنة إلى وجهات أخرى.
وكان «خضير» و«سعيد» و«المهاجر» من الفريق الثاني، بينما فضَّل كل من «الأفغاني» (جزائري) و«جمال الدين» (جنسيته غير معروفة) و«أبو الليث» (مصري) و«صليل» (مصري) البقاء داخل درنة، وظل كل من «أبو الليث» و«صليل» يتمركزان مع عناصر موالية لهما، في منطقة مسجد الصحابة بوسط المدينة.
ويقول مصدر في نيابة مصراتة: إن عملية القبض على «خضير» جرت في شرق طرابلس، بعد أيام من هروبه من درنة، وتابع موضحًا: «وفقًا لما اعترف به خضير، فقد انتقل مع القيادي المصري سعيد من درنة، إلى منطقة الهروج الصحراوية، والواقعة على بعد نحو 500 كيلومتر جنوب شرقي سرت، وتم في تلك المنطقة تقسيم العناصر الفارة من درنة وغيرها إلى مجموعتين.. واحدة مع سعيد ما زالت متمركزة في الهروج، وواحدة بقيادة خضير انتقلت إلى موقع يسمى العلالقة في صبراتة غرب طرابلس.
وكانت سلطات الأمن الليبية قد بدأت وقتها رصد نشاط المتطرفين الذين أخذوا في العودة إلى صبراتة مرة أخرى، وتقول التحقيقات إن «خضير» كان حريصًا على زيادة عدد المقاتلين في مجموعته، فلجأ إلى تجنيد شريحة من الشبان المصريين العاملين في الصيد على سواحل مدينة زوَّارة المجاورة. وبعد أن اجتازت مجموعته دورات تدريبية سريعة على القتال، بدأ بالتحرك بها عبر رتل من السيارات، إلى شرق البلاد، في محاولة لتوجيه ضربات من الخلف للجيش في المنطقة الشرقية.
واعترضت قوات من مصراتة رتل «خضير» على الطريق الساحلية قرب منطقة الخُمس، وأضاف مصدر في الاستخبارات العسكرية أنه جرى إحالة المقبوض عليهم للنيابة بعد أن قام ضابط في غرفة عمليات البنيان المرصوص، وهو برتبة عميد، بالتحقيق مع المجموعة.
العسال
ومن بين قيادات متطرفي درنة المختفين المصري «العسال» الذي اختار الخروج مع «خضير» و«المهاجر» و«سعيد» من المدينة، قبل أن يطبق الجيش الحصار عليها في الأسابيع الأخيرة، وترجح التحقيقات المبدئية أنه توجه إلى الحدود المصرية في محاولة للدخول مع مجموعة من «أنصار بيت المقدس» إلى مصر، بالتنسيق مع «المهاجر».
ويقول مصدر يعمل قرب هذه الجماعات في شرق ليبيا: إن «العسال» شوهد مع نحو عشرين من عناصر «أنصار بيت المقدس» في منطقة قريبة من قرية «قصر الجدي» الليبية التي تبعد بضعة كيلومترات عن الحدود مع مصر من ناحية الساحل، وتقول آخر المعلومات إن «العسال» وجماعته «يبدو أنهم توغلوا أكثر ناحية الشرق إلى أن تقطعت بهم السبل في وهاد وعرة ملاصقة للحدود المصرية تسمى وادي النصراني».
مهندس طرق
ويعد «العسال» الذي بدأ حياته في مصر مهندسًا للطرق من القيادات الشابة والملهمة للمئات من تنظيم «أنصار بيت المقدس» الذين فروا من مصر إلى دول في المنطقة بسبب ضربات الجيش في سيناء، خصوصًا في السنوات الثلاث الأخيرة، وسبق أن قاد «العسال» عمليات قتالية ضارية لصالح تنظيم داعش في العراق.
ويفيد مصدر أمني يعمل على مراقبة المتطرفين أن «العسال» تعامل بشكل مباشر مع زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي في الموصل، قبل أن تحررها القوات العراقية، ويضيف أن هذا المصري انتقل بعد ذلك إلى سوريا وشارك في معارك «داعش» في الرقة، ثم انتهى به المطاف في درنة.
منافسة على الزعامة
وأدى التنافس على تولي الزعامة في درنة بين قيادات مختلفة خلال الشهور الماضية إلى تشتت ولاءات العناصر المحلية والعربية والأجنبية التي تعمل تحت إمرتها وإضعاف جبهة المتطرفين، ويقول المصدر نفسه إن سمعة «العسال» كقائد خاض معارك في العراق وسوريا سبقته إلى درنة، وأثارت قلق شخصيات مثل «المهاجر» و«أبو قتادة» و«سعيد» و«الهواش» و«الأفغاني» و«عبد الحق».
وأدى التنافس بين القيادات كذلك إلى ظهور ما لا يقل عن خمس مجموعات داخل درنة وما حولها، يحمل كل منها اسم «المرابطون»، كتنظيمات غير محددة الملامح لأن عناصر كل منها تبدو متباينة الولاءات ما بين «القاعدة» و«داعش» و«الإخوان»، ويوحد بين كل هؤلاء العداء للجيش الليبي، وكلما زاد ضغط الجيش زاد مستوى التنسيق والتعاون بين خصومه.
وتجد هذه الجماعات غطاء سياسيا وإعلاميًا مما يسمى «مجلس شورى مجاهدي درنة»، وكذلك من بعض الشخصيات في طرابلس في كل من المجلس الرئاسي ومجلس الدولة.
أنصار الشريعة
وتكونت شخصية «المهاجر» البالغ من العمر 39 عامًا في درنة التي انتقل إليها قبل خمس سنوات من سوريا، وحصل على نفوذه في ليبيا، من خلال قربه من أحد زعماء تنظيم «أنصار الشريعة» المعروف في المدينة بلقب «بن قمو»، وهو سجين سابق في جوانتانامو، وكان «بن قمو» من بين ثلاثة يهيمنون على توجيه الرأي داخل المؤتمر الوطني (البرلمان السابق) في ليبيا، من خلف الستار، إلى جوار اثنين أحدهما قيادي في جماعة «الإخوان»، والثاني قيادي في «الجماعة الليبية المقاتلة» المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، وهذان الأخيران ورد اسمهما في لائحة عربية للشخصيات والكيانات الإرهابية صدرت الصيف الماضي.
وأسقط الليبيون «المؤتمر الوطني» في انتخابات 2014 وتراجع نفوذ «بن قمو» في درنة، بعد اقتتال بين مؤيدي «داعش» و«القاعدة»، وأعطى هذا فرصة لـ«المهاجر» كي يستقل بنفسه في العمل، بعيدًا عن «بن قمو»، بعد أن أصبحت لدى هذا المصري موارد مالية وقتالية كبيرة في وديان درنة الوعرة، إضافة إلى احتفاظه، وقتها، بعلاقات قوية مع مجموعات متطرفة في ضواحي المدينة مثل الفتايح والسيدة خديجة وباب شيحة وميدان الصحابة، وتتهمه السلطات في القاهرة بالوقوف وراء تنفيذ هجمات إرهابية ومحاولة اغتيال مسئولين في مدن مصرية.
إصابة القيادات
وتعرض «المهاجر» لأكبر خسارة، أخيرًا، حين قصف الجيش الليبي مواقع للإرهابيين في درنة، وأصيبت معه في هذا القصف غالبية القيادات التي كانت قد وصلت حديثًا إلى المدينة في رتل آخر من المقاتلين من منطقة الخُمس، كما أدت عمليات الجيش في الأيام الماضية إلى تدمير شبكة الاتصالات الخاصة بالمتطرفين في المدينة، وهي شبكة متقدمة يقدر ثمنها بنحو ثمانية ملايين دولار، وكان يديرها مهندس عراقي، ولا يعرف إن كان ما زال على قيد الحياة أم قُتل في تلك الغارة.
ويقول مصدر على علاقة بعمليات الجيش: إن «القصف الدقيق بالطيران قلَّم أظافر تلك القيادات وزعزع موقفها فقد لحقت خسائر كبيرة بمعسكرات التدريب في درنة، لكن الأهم هو تدمير الرتل الذي كان قد جاء من الخُمس، واستقر في منطقة الفتايح جنوب المدينة، وكان فيه من القيادات المهمة والمعروفة في أوساط متشددي درنة، أسماء تحمل ألقاب أبو عبد الله (مصري) وأبو المنجد (مصري) وأبو قتادة (مصري) والمقدسي (جزائري) وأبو حسن (تونسي) وأبو حسام (فلسطيني)، بينما أصيب المهاجر أثناء وجوده في محور الظهر الحمر في أقصى جنوب المدينة».
تنظيم المرابطين
وشكل «المهاجر» تنظيم «المرابطون» في درنة، وهو الاسم نفسه الذي تحمله جماعة بلمختار النشطة في جنوب ليبيا وجنوب الجزائر وشمال مالي، ويقول مصدر على صلة بالجماعات المتطرفة في درنة: «لم نعرف أبدا منهج المهاجر منذ حط مع جماعته في المدينة قبل سنوات فهو بايع (داعش)، وفي الوقت نفسه يعد بلمختار الموالي لـ(القاعدة) مثله الأعلى، كما أن له علاقات متشعبة مع تنظيمات متشددة متباينة التوجهات في المدينة وخارجها ولهذا ظهرت تنظيمات أخرى في جبال درنة تحمل اسم (المرابطون) لكن بقيادات مختلفة ومتنافسة».
ويعتقد أن إصابة «المهاجر» جعلت حالته الصحية تتدهور، وفي الأسبوع الماضي تلقى ضربة أخرى حين تمكن الجيش الليبي من حصار اثنين من أبرز مساعديه وكاتمي أسرار عملياته، في ضاحية «شيحة» في درنة، ويدعى الأول «أيمن» والثاني «سرور»، ولم يعرف بعد إن كانا قد قُتلا أو أصيبا أو ألقي القبض عليهما.
.